*
*
*
*
*
*
*
قدس اقداس الكتاب المقدس(الجزء التالث)
مُساهمة Admin في الثلاثاء مارس 23, 2010 9:15 am
الجزء الثالث من سفر نشيد الأناشيد
نشيد الأناشيد في تاريخية تحليله وتفسيره
1- طبيعة النشيد وتكوينه
لقد خضع نشيد الأناشيد عبر الزمن لدراسات نقدية متعدّدة من خلال كثير من الباحثين والعلماء البيبليين، وفيما يخصّ تكوين النشيد وطبيعته، يقول فريق أنّ النشيدَ محبوكٌ بعناية، وهناك تطوّر وتوتّر في سياق قراءته ليجعل منه مؤلفاً درامياً. وفريق آخر لا يرى في النشيد إلاّ حركة تكرار ومراوحة، ويعتبره مختارات من أغاني الأعراس المجموعة والمُدْرَجة في مجلد واحد.
والحقيقة أنه لا يمكن أن يُعتبر السِفْر حبكة روائية حقيقية، إنما نحن أمام سلسلة من القصائد، تعيد كل واحدة منها اجتياز الطريق نفسه بوجه من الوجوه، لكنها ترسم في الوقت المحدد بعض التقدم نحو الأمام في اتجاه الامتلاك المتبادل، وفي اتجاه المستقبل الذي بات ممكنا الوصول إليه.
من ناحية أخرى، يُجمِع الباحثون أنّ النشيد دُوِّن في فترة ما بعد الجلاء حوالي نهاية القرن الخامس، لكن له تاريخ طويل في عمق الزمن.
لكن هناك فريق يربط النشيد بالعالم الوثني والثقافات المجاورة لإسرائيل – مصر وبلاد الرافدين - والتي كان له معها علاقة، فيأخذ هنا النشيد طابع التغنّي بجمال الحب البشري حيثما اختبره رجل وإمرأة، أو طابعاً طقسياً مرتبطاً باحتفالات الحب والزواج بين الآلهة (تموز وعشتار). وفريق آخر يجعل النشيد في قلب العالم اليهودي، في المجال الخاص بإسرائيل والكتاب المقدس، فيكون بذلك وثيقة تتحدث عن المؤسسة العائلية في إسرائيل والتي ترقى إلى حقبة قديمة.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات ينقسم المفسِّرون إلى فريقيْن فريق يُعلِن أن النشيد يتناول فقط موضوع الحب البشري وقراءته هي قراءة حرفية؛ وفريق آخر يعتبر أن معنى النشيد الحقيقي لا يمكن إلاّ أن يكون روحياً وأنّ قراءته هي قراءة تمثيلية محضة، واستخدام موضوع الحبيب والحبيبة هو فقط ليوحي بقصة العهد بين الله وشعبه.
هذا التباين أدّى بدوره إلى تمييز رأيين يخصّان انتماء النص الأدبي. فمنهم فريق أول يبرهن أن النص ينتمي إلى التقليد النبوي، أي إلى الخط الذي افتتحه هوشع واصفاً بتعبير الأعراس علاقة الله بإسرائيل، وتابَعَه بعده إرميا وحزقيال وأشعيا الثاني. فَيَهْوه هو العريس، وإسرائيل هي العروس، والموضوع هو تاريخ العلاقات بين الله وشعبه، وبذلك تغدو خلفية النشيد اختبار إسرائيل في بابل ثم تحرّره وعودته. هكذا يبدو النشيد بِمُجمله صدى واسعاً لأقوال ومواضيع نبوية سابقة، يستمد منها تماسكه الوثيق مثل: الكرم والشجرة والندى والعريس الذي هو تارة راعيٍ وتارة ملك، وموضوع التيقظ المرتبط بأقوال صهيون...وفي هذا الإطار يكشف النشيد عن ذاته أنه رواية درامية تندرج من نشيد إلى نشيد وتُخبِر قصة حب الله وشعبه، وتتطلّع نحو استيقاظ الأُمة. فيظهر هنا النشيد كأنه مدراش تمثيلي يواصل نصوص الأعراس الواردة في الأدب النبوي منذ هوشع، ويقودها إلى لحظة تحقيق العهد وكمال الحب المتمثّل في الرجاء المتجدِّد في الزمن الذي تلى الجلاء، حيث "سيعرف إسرائيل الله يوماً وسيحبه حباً في ملء الحق" كما يُعلِن ذلك (هو2/18-25) وإرميا (إر31/32-34).
إنه من الروعة أن يكون هذا السفر مُنشَغِلاً جداً بتاريخ إسرائيل الروحي وفي نفس الوقت مُصِرّاً بذكاء على جعلنا نعتقد بأنه لا يهتم إلاّ بقصةِ رجل وامرأة يحبان أحدهما الآخر حباً بشرياً وحسب.
أما الفريق الآخر فيعتبر أن النشيد ينتمي إلى عالم التقليد الحِكَمي, ويرفض أي تفسير تمثيلي له (تيودورس المصيصي). فالنشيد يسبَح في جوٍ من الحب الوفي بينما يتميّز التقليد النبوي باختبار عدم الأمانة في الحب. والنشيد تغنٍ بالحب البشري يوازي ما جاء في موضوع الحب الزوجي في الأسفار الحكمية، خصوصاً عند ابن سيراخ. إنه قصيدة حب تحوّلتْ إلى مؤلَّف حِكَمي في الكتاب المقدس. وإذا كان النص يتحدث عمّا يدل عليه بوضوح شديد فيعلن جودة الحب البشري وجماله، فإنه في الوقت نفسه ينزع عن هذا الحب الصُبغة الوثنية التي كانت تُضْفي طابعاً جنسياً على ما هو إلهي وطابعاً قُدْسياً على الهوى، ويتكلم عن الحب الصريح والمتبادَل مُدْخِلاً أهدافاً تربوية عليه: ففي مجتمع ينتشر فيه تعدّدُ الزوجات يؤكد النشيد على حب واحد وحصري، وأمام الطلاق الذي كان شائعاً يُشيد بالحب الذي هو قوي كالموت، وأمام عدم تساوي دوريْ الرجل والمرأة يُظهِر النشيد تساوياً تاماً، فيُحرّر الحب، الذي ينظر إليه نظرة كلّية تشمل التعبير الجسدي، من طابعه الأسطوري الوثني، أي من النزعة الطبيعية التي لا حشمة فيها ولا إنسانية، والتي تعطي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بُعْدَ العلاقة الزواجية بين الآلهة من أجل الخصب.
وإذا عُدنا إلى التقليد النبوي فإننا نراه يعتبر أن هناك علاقة زوجية جديدة حلّت مكان علاقة الزواج الإلهي، وهي العهد بين الله وشعبه والذي من خلاله يتدخّل يَهْوَه في تاريخ شعبه وتاريخ العالم، وهذا العهد يهدف إلى صنع التاريخ. إن هذا الكلام يُعيد للعلاقة بين الرجل والمرأة دورها الأساسي، وبكلامه عن خالق التاريخ، يدعو الخليقة لأن تعيش في قلب ذلك التاريخ وبهذا يبدو النشيد تفسيراً للفصل الثاني من سفر التكوين.
والخلاصة إن نشيد الأناشيد يتضمّن بِمُجْمله أقوالاً نبوية وأقوالاً حِكَمية، وفي كثير من القصائد هناك عناصر بعيدة جداً عن اهتمامات العهد، وبالتالي فالكتاب ليس من عمل مُؤلِّفٍ واحد بل هو تحرير لنصوص ترقى في جزء منها إلى ماض بعيد وفي جزئها الآخر إلى العصر الذي يقارب تحريرها وتدوينها وذلك بدون أن يكون هناك أي تنافر أو تناقض بينها. إنه شبيه بنهر يستمد منبعه من أرض بعيدة وغريبة، ثم يتّخذ عبر مجراه الطويل مكانه وشخصيته الخاصة. وإنه شبيه بقطعة موسيقية سيمفونية متعددة الأصوات ترتسم على عدة مُدرّجات وتُعزف على عدة أوتار من المعاني، لكنها تطرح موضوعاً رئيسياً هو تاريخ إسرائيل والوحي مع كل مراحله التي تقود هذا التاريخ وتجذبه نحو نهايته.
وإذا أردنا أن نفهم ذلك علينا أن نتصوّر أنّ هذا النشيد كان في البداية نصاً يشبه تقليد أغاني الحب على الطريقة المصرية، ثم رُبط في إحدى مراحل انتقاله بالتقليد النبوي خصوصاً في القرن الخامس، حيث يعود القسم الأساسي من النشيد وحيث يبلغ التأمل النبوي في الوحي ذروته.
في هذا التأمل النبوي تبرز صورة أنثوية مُدهِشة وخفية: فالحديث، عند أشعيا وبعد هوشع، عن الله عريس الشعب يؤدي إلى صورة غير مألوفة عند إسرائيل هي صورة صهيون المقدسة التي تلد أمة في يوم واحد (أش66/Cool، وهنا نرى إسرائيل العروس ترتدي سمواً وقداسة جديدين يبعدان ذكريات الخيانة إلى ماضٍ بعيد. ولا غرابة أن نجد في نصوص ما بعد الجلاء دوراً نسائياً إيجابياً مشاركاً بوجه سري في الدفاع عن إسرائيل وفي مستقبله والخلاص الآتي مثل راعوت وأستير ويهوديت.
هناك نقطة أخرى هامة في التقليد النبوي, وهي صورة سليمان الذي يُنسَب إليه النشيد، فالتأمل في هذه الصورة المثالية هو توسّع في التفكير الحِكَمي المتعلق بالعهد المشيحاني المنتظَر، وبالتالي يكون الحبيب في النشيد ذلك الملك المشيح الذي تنتظره بنت صهيون والذي تنبّأت به صورة سليمان الذي يصفه سفر الأحبار بأنه المؤتمن على حكمة الله (2أخ1/1-12). كل هذا يؤدي بنا إلى أن نرى أن يهوه يبقى هو عريس إسرائيل الوحيد، ولا نجد غموضاً عندما يحل الملك المشيح مكان يهوه في النشيد الذي يُعتَبر في هذه الحالة وحي مسبق عن العهد المسيحاني الآتي، وصورة مسبقة عن ذلك السر الذي سينكشف مع يسوع المسيح ابن الله العريس الوحيد للكنيسة عروسته، الذي معه سيكون هناك عهد جديد وأزمنة جديدة، إحدى علاماته عهد الرجل والمرأة اللذين يعيشان فيه الإتحاد الذي أراده الله في البدء.
إنّ النشيد هو نوعٌ من الكلمة الشاملة التي تشير إلى سر الخلاص، حتى ولو اعتراه شيء من الغموض – وهذا طبيعي لأنه من ميزات سر الخلاص – وهو في كلامه عن اتحاد الرجل والمرأة يتحدث عن اتحاد
البشرية والله جامعاً البداية بالنهاية، سائراً في اتجاه أسرار الخلق والتاريخ
Admin
Admin
عدد المساهمات: 26
تاريخ التسجيل: 13/12/2009
معاينة صفحة البيانات الشخصي للعضو
http://aghapy.hooxs.comالرجوع الى أعلى الصفحة